غربيون أكثر من الغرب:” هانا مونتانا" السعودية
بقلم: الدكتور موفق العيثان استشاري علم النفس العيادي والعصبي
لا يمكن للحياة أن تتوقف أو تتجمد.. من سنة الحياة أن تنمو وتتغير، ومن نعم الله علينا أنه أودع فينا القدرة على التكيف والتأقلم، وإن كان بدرجات مختلفة لأسباب يعلمها الرزاق الوهاب. إن التغييرات التي مرت بالأمة العربية والإسلامية ( ككل العالم) تغيرات كبيرة جدا، ولا يمكن أن نستصغرها.
قبل أكثر من نصف قرن بدأت حداثة بالشرق – العربي وغير العربي. عندما تحدث بدر شاكر السياب أو نازك الملائكة بلغة جديدة مما لم تسم حينها شعرا، بل نثرا... عندما حل الهاتف والتلفاز....عندما استخدمنا السيارة ومارسنا السفر بكثرة...إلخ. هل بالإمكان أن نشعر بأننا شرقيون من غير التحدث بالتغريب الحاصل في حياتنا وثقافتنا.
المراهقات والمراهقون الآن وهنا يعانون الأمرين من تعاملهم مع الأهل، ويعاني الأهل منهم كذلك.. ليس بصورة خاصة نادرة. لكن هناك جوانب تخص ظروفنا.
سارة ذات الثلاث عشرة سنة بنت شاطرة بالمدرسة، وتعيش بالرياض مع أهلها، الأم مديرة والأب معلم، ولديها ثلاث أخوات وأخ. علاقة الأهل بالأقارب جيدة جدا. طلب الأهل مني أن أشخص وأعالج حالة سارة، لأنها تعاني من سلوكيات عدوانية و"تسرح" كثيرا بالفصل والبيت. درجاتها عادة جيدة جدا أو ممتازة. لكنها أحيانا تتأخر في واجباتها، ولا تفهم كيف ترتب أمورها.
بعد حديثي المباشر مع البنت (وفيما يخص هذا المقال فقط) تبين أن البنت تعيش كثيرا مع (هانا مونتانا): البنت المراهقة المغنية الأمريكية (تبثها قناة الــ MBC ) قناة سعودية عربية مسلمة..! هذه الفتاة الأمريكية الجميلة المغنية المراهقة تعيش الدراما الأمريكية كاملة: منها الغيرة والحسد والصراع على وبين الشباب والشابات والملابس والمكياج وتسريحات الشعر، والشهرة بفضل الغناء، ونجاحاتها بسبب الغناء.. والقائمة كثيرة وطويلة.
بالنسبة لسارة فإنها تعيش يوميا هذه الجرعات الدرامية للحياة الطبيعية التي تمر بها سارة السعودية، متقمصة هانا الأمريكية. سارة لا تشعر بأن هناك فروقا: كلتانا مراهقتان وجميلتان، ونحب الأنوثة والجمال وإطراء الآخرين لنا وتشجيعهم لنا. باختصار سارة تحدث نفسها ليل نهار: أريد مثل هانا. هكذا يحدثها المخ: الذي يعاني يوميا من جرعات هانا.
من هي أقرب الناس إلى سارة: الأم؟ الأخت؟ المدرسة؟ الشخصيات التاريخية..؟ أبدا. كما توقعتم-القراء الكرام- هانا.. بلحمها ومكياجها وتسريحاتها وحركاتها. أسرة سارة متغيرة التدين والمحافظة.. هناك فروق بين الأم والأب، فالأب أكثر تحفظا من الأم..، وسارة تعلم ذلك. حتى لو كانت الأسرة لا تملك التلفاز أصلا، فالمدرسة مليئة بآلاف الـ (هانا مونتانا السعوديات).
هانا مونتانا تتحدث مع أبيها كالند- حريتها في أمريكا تتيح لها ذلك، وتناقشه بارتياح كيف أن الموضوع الفلاني يخص حياتها، ولا علاقة له بقراراتها الشخصية.. كل يوم هانا –تعلم سارة ذلك. تأتي أم سارة وتصدم بردات فعل وكلام ومفردات سارة معها أو مع أبيها المنهمك بعمل أو شغل خارج البيت. لكن هذه الصدمة تزول عندما نفهم تعلم سارة المستمر والناجح في مدرسة هانا.
مئات الآلاف مثل سارة السعودية وهانا الأمريكية.. وهنا المشكلة.. ليست حالة فردية. الضحية سارة لا تميز كأمها وأبيها اللذين يدركان أن هناك فرقا بين التلفاز والواقع. الضحية سارة يتأثر مخها بما يعرض عليه يوميا بغض النظر عن المحتوى، حتى الأمهات اللاتي في الثلاثين اليوم لا يمكن أن يتفهمن الفرق الكبير بين ما تعرضن له من عشرين سنة وبين الحاضر.
سارة تنطبع شخصيتها ( على الأقل الآن) بما تتعلمه من هانا. غالبية البنات سيتعلمن من هانا طبيعي- كما غالبية الذكور الأولاد سيتعلمون من شخصيات ذكورية مشابهة (في الواقع أو التلفاز). تأتي الأم لتشتكي من اضطراب سلوك البنت، ويأتي من لا يفقه ليشخص البنت على أنها تعاني من اضطراب فرط الحركة أو اضطراب الشخصية، والأكثر يعطيها أدوية باسم العلاج النفسي.
عندما نقارن بين الغرب وبلداننا، نجد أن ضحايا كـ (سارة) تعيش الواقع الغربي بدرجة تفوق الغرب- لأن زميلاتها في الغرب يعرفن الواقع أكثر بسبب أنهن على الأقل يمررن بمنهج دراسي في فكر وتعليم كيف نفكر، إضافة إلى أنهن بالبيت يتعلمن منذ الصغر التمييز والقدرة على الاختيار. بينما هنا تشرب سارة المادة الأمريكية بلا وعي، وبلا نضج نفسي أو انفعالي.
ومقارنة أخرى مع الغرب، توضح لنا على سبيل المثال رغم وجود الملايين من الناس ذوي الأصول الهندية في بريطانيا، إلا أننا لا نجد مسلسلا هنديا يبث في القنوات البريطانية!، ولو عمل لكسب الملايين من الإعلانات. رغم ذلك لا مسلسل غير بريطاني أو قريب لبريطانيا ثقافيا.
إذن الحالات النفسية والاضطرابات السلوكية التي تمر بها بعض (فقط بعض: مئات الآلاف) من المراهقات والمراهقين لابد أن تفهم ضمن السياق الذي وضعناهم نحن (المجتمع والتلفاز والإعلام والإنترنت) فيه. هذا لا يعني الانغلاق. بل التفهم وتحمل المسؤولية.
لا يمكن لعاقل أن يرجع دورة الزمن أبدا، وهذه سنة التغيير في الحياة.. كما بدأت في حديثي. الأم العاقلة والأب الراشد عليهما أن يجلسا مع البنت والولد لمتابعة برنامج، ويتحدثان معهم كل يوم عن اختلاف الواقع عن التلفاز، وعن الفروق الفردية، واهتماماتنا في الشرق وفي السعودية.
لا يتوقع الأب أو زوج البنت المستقبلي أن تكون الزوجة –" سليطة لسان" كما يدركها الناس هنا (وصفا لا حكما على الموضوع مني). هذا الأسلوب في الحوار به إيجابية مع السياق النفسي والثقافي في الغرب. لا يمكن لسارة أن تصبح غربية الطباع (مثل هانا) وتعيش في السعودية. ستتعب المسكينة وتتعب من حولها.
للغرب إيجابيات كثيرة، وفي الشرق عادات كثيرة مختلفة. لكم أن تحكموا عليها- كل له الخيار- لكن لا يمكننا أن ننفرد بالحكم ونعيش واقعا فرديا. سارة ضحية وليست سبب المشكلة، وأم سارة ستكون كابنتها لو بدلنا الزمن.
المهم أن نهتم بجدية – وليس للدعاية والإعلام بأننا نفعل ونفعل والواقع تعيس جدا- نأتي بالناس غير المؤهلين لنصلح مستقبل الأجيال. سننجح في تحقيق أروع أنماط الفشل.! هل ممكن للقراء الكرام أن يذكروا لي برنامجا للطفولة والمراهقة عندنا، فعالا وناجحا ومهتما بالأساليب العلمية، مستفيدا من علم النفس وأبحاثه؟ ويستخدم في كتابة المنهج المدرسي مثلا؟. سيأتي من لا يفقه ويجد سببا واحدا فقط (يتناغم مع هواه) ليقول إنه هو السبب ويجب العمل عليه! لا سبب واحد ولا حل واحد..!بل.. تعددت الأسباب وتعددت الحلول.
هل يمكن أن نقيس فشلنا الحالي..؟ أم إن المرآة مؤلمة!. لو كسرنا المرآة تجنبا لرؤية حقيقة الحال. فإن هذا لا يغير الحال..! المرآة بريئة.. لا تكسروها رجاء.
*للاستشارات النفسية:
المصدر:
http://alwatan.com.sa/news/newsdetai...373&GroupId=13حسبنا الله ونعم الوكيل
ممنوع وضع الايميلات والا سيتم حظر العضويه
تم التحرير بواسطه Reluctant Groans
ــ