العنف في المؤسسة التعليمية
العنف ظاهرة لم يسلم منها أي بلد فيالعالم، غير أن في دول العالم الثالث برزت بدرجة أقل عما يحدث في سائر أقطارالمعمورة، و هذا ما يدعوا للتفكير عن علل انتشارها بهذه الحدة في المجتمعاتالمتقدمة التي كان يعتقد بأن الثراء فيها يشكل جهازا منيعا لمثل هذه الظواهر، لكنلو كان هذا الاعتقاد صائبا لكان ذيوعها في الجهات المختلفة أوسع منه في الدولالراقية و ليس العكس، و بين هذا و ذاك، فإن حتى و لو اختلف الوضع الاجتماعللمجتمعات إلا أن أسباب العنف و مظاهره تبدوا و أنها لا تختلف من بلد لآخر، و هذاما يوحي إلى الاعتقاد بأن الوضع الاجتماعي ليس إلا مشجبا يعلق إليه فشل كل من كبجواده لاسيما في الدول المتخلفة، فبالمقارنة بما يحدث هنا و هناك في بقاع العالمنستخلص أن هذه الظاهرة في المجتمع الجزائري لا تختلف في شيء عما تشهده باقيالمجتمعات سوى أنها في طور النشوء.
و إن كان لهذه الظاهرة نتائج وخيمة علىالقيم و الأعراف السائدة وسط أفرد المجتمع الجزائري، فإن انتشارها في فضاءاتالتعليم و التكوين يدعوا للقلق أكثر، نظرا للخطر الذي تمثله في مؤسسات من المفروضأنها في منأى عن كل ما يمت بصلة بالسلوكيات الغير السوية، و للغوص أكثر في هذاالموضوع ارتأينا إلى التقرب من العاملين في حقل التعليم، الذين أجمعوا على أنالاختلاف في السلوك مصدره الأساسي هو الإطار المرجعي الأول الذي بنى فيه التلميذذاته وسط التأثيرات و التفاعلات بالمحيطين به.
و في هذا الصدد يوضح لنا السيد بنمنصور العربي معلم بمدرسة أقابيو الابتدائية بأنه يمكن تصنيف التلاميذ حسب فوارقهمالفردية إلى ثلاثة فئات، حيث يقول بأنه هناك منها (الفئات) من يتحل بصفات سوية وتبدي ميلا فياضا للاجتهاد في التعلم، و هي الفئة التي ينحدر أفرادها من أسر يتراوحمستواها الثقافي بين التاسعة أساسي و ما فوق، و يعتمد أوليائهم في معاملتهم معأبنائهم على معاملة الصديق للصديق، و هناك الفئة التي تظهر عليهم الأعراض الأوليةللعنف في صباهم، فهي الفئة التي يقول عنها بأن أفرادها ينحدرون من أسر لا يتعدىالمستوى الثقافي لأفرادها السنوات الابتدائية، حيث يوضح في هذا الصدد بأن أفراد هذهالفئة لا يبدون أي ميل للدراسة و أن تصرفاتهم مع أقرانهم تتميز بنوع من الخشونة ويميلون للانزواء و الانغلاق، كما لا يتورعون للجوء إلى الكذب لأتفه الأسباب، و أنهمينحدرون من أوساط تفتقر للثقافة المعاملة المتحضرة، حيث غالبا ما يتعاطى الآباء معأبنائهم بأساليب عنيفة تبلغ أحيانا ـ حسب محدثنا ـ إلى حد الضرب المبرح بواسطةالعصا أو الحزام الجلدي أو الأنبوب، و يقول أيضا بأن هذه الفئة عادة ما تأتي إلىالمدرسة بدون الأدوات المدرسية، حتى يخيل بأنهم لا هدف لهم في مجيئهم إلى المدرسة،و هم في الحقيقة يأتون فارين من جبروت أوليائهم الذي(جبروت) يمنعهم حتى من التجرؤعلى مطالبة أوليائهم بمتطلبات الدراسة.
و إلى جانب هذا فيكشف محدثنا بأنالأبناء الذين يسخرون لقضاء الحاجيات المنزلية بدل من دفعهم إلى الدراسة، هيالأغلبية التي تتعرض للرسوب في آخر العام الدراسي و إعادة السنة لأكثر من مرة فيمراحل الدراسة حتى تحل جنبا إلى جنب بتلاميذ يفوقونهم سنا بأعوام، و عندئذ يقول لايتورعوا في اللجوء إلى عرض عضلاتهم كلما دعت الضرورة الصبيانية إلى ذلك، و في هذاالسياق يروى لنا السيد مدور رشيد معلم المدرسة الابتدائية واقعة حدثت بإحدى المدارسالنائية أين كان استغلال الأبناء بلغ قمة الاستبعاد، حيث قال:\\\" أن في أحد الأيامبينما كان منهمكا في تقديم درسه دخل عليه والد تلميذة، و دون أن يستأذن اتجه مباشرةإلى ابنته و شرع يهددها بالضرب بسبب مجيئها إلى المدرسة بدل من الذهاب مع بقيةأفراد عائلتها لجني الزيتون، ثم أدار إلى المعلم الذي كان حينها على المصطبة، فأشارإليه بإصبعه و قال: أعلم بأن هذا الشيطان هو الذي يدندن في أدنيك و أغراك بالمجيءإلى هنا، و راح يتوعده بالطرد من قطاع التعليم و هو ما سكا شاربه\\\"، و حول هذهالنقطة بالذات يقول مفتش التربية السيد طاهر جباري بأنه من الخطأ أن يعتقد المرءبأن المعاملة القاسية يمكن أن تؤدي إلى إصلاح سلوك الطفل أو المراهق حيث أن الحقيقةفي رأيه غير ذلك، فالضرب في نظره يشبه المهدئ الذي وأن خفف من شدة الألم إلا أنمفعوله ظرفي و لا يشفي المريض، و لا يعمل على القضاء على الأسباب الحقيقية لانحرافالسلوك، بل يدفع الطفل إلى اقتباس الشخصية المناسبة التي يمثلها على خشبة المسرح ويبطن شخصيته الحقيقية، و أما المعلم تاركت عبد الرحيم فيرى أن التلميذ في هذا الظرفبالذات قد لا ينفع معه لا الشدة و لا الليونة في التعامل معه، حيث أن الشدة حسبهتدفع التلميذ إلى الانغلاق على نفسه و كبت تفاعلاته، و يبطن الأعراض التي تنبأبالانحراف كلما تلقى معاملة قاسية، و يضيف قائلا بأنه من أجل هذا السبب و غيره ينصحبالتعامل مع الأبناء بطرق مرنة، كونها ليس فقط تسمح بإظهار الصورة الحقيقية لسلوكالطفل، و إنما تمكننا من علاج كل إعوجاج يطرأ على سلوكه في الوقت المناسب، فهي أيضاالطريقة الكفيلة لفهم التلميذأكثر.
2/3و أما الفئةالثالثة فيقول المعلم بن منصور بأنه هي تلك التي تتشكل من العناصر المدللة و لوأنها لا تختلف عن أفراد الفئة الأولى من حيث ميولها للدراسة و الاجتهاد في السنينالأولى من التعلم، إلا أنها من حيث سلوكها و تصرفاتها فهي لا تختلف عن سائر أفرادالفئة الثانية و سرعان ما تصاب ذاكراتهم مع مر السنين بفيروس يأتي على كامل الملفاتالمختزنة طيلة مسارهم الدراسي، إذ يفسر المعلم مخلوفي عبد الغاني ذلك بأنه بغض النظر عن العوامل الغير العائلية و تباين الأوضاع الاجتماعية التي تؤثر حسبه أحيانابطريقة أو بأخرى، فإن المستوى الثقافي في الوسط العائلي في نظره يمثل العاملالأساسي الذي يشكل اللبنة الأولى من القيم في شخصية الطفل التي يستمر وفقها فيالعالم الخارجي لكون أن أفراد العائلة تشكل أول نماذج للتقمص، و إلى جانب هذا فيضيفقائلا بان الوضع الاجتماعي مثله مثل الوضع الثقافي للأسر، فهو يؤثر أيضا على السلوكو الشخصية لأن لكل طبقة اجتماعية نمط عيش خاص و قواعدخاصة بها، و يقول بأن ذلكما يبرز في سمات الطفل من خلال الخصائص النفسية و الأنماط الخاصة.
من نتائجالحد من العقاب الجسماني:
و إلى جانب هذا، فقد لا يختلف اثنان حول التأثيرالسلبي الذي أحدثته التعليمة الوزارية المتعلقة بالحد من العقاب الجسماني في المؤسسات التربية، إذ يبدوا أن إصدار هذه التعليمة الوزارية دون إجراء تعديل يسمحبتكيف القوانين المسيرة للمؤسسات التعليمية مع المتغيرات التي أفرزها تطبيقها،أحدثت فعلا هوة كبيرة في علاقة المعلم بالمتعلم، و أدت الحملة الهادفة إلى الحد من العقاب الجسماني في المؤسسات التعليمية، و التي كانت ترمي بالدرجة الأولى إلى توعيةكل الأطراف بضرورة التأقلم مع الوضع الجديد الذي أفرزته هذه التعليمة، إلى بروزأولى أعراضها السلبية في صور مختلفة كحادثة الرسائل التهديدية الموجهة من قبلالتلاميذ للآساتذة التي طفت إلى السطح في نهاية شهر أفريل المنصرم بأقبو، و إقدامهمأيضا على تهديد معلميهم علنية و الفرار من حجرات الدراسة متوعدين معلمهم بالتعرضإليهم في الطريق.
و على هذا الصعيد، فيرى معظم المعلمون، الذين استجوبناهم حولأثار حملة الحد من العقاب الجسماني التي قادها وزير التربية آنذاك من على بلاطوهاتالقناة الوطنية، بان تطبيق التعليمية الوزارية و الحملة التي تلتها على الشاشة د ونتعديل نظام العقوبات وتفعيلة قد خلف حسبهم نتائج سلبية أكثر منها إيجابية, بحيث عوضأن تدفع ولي أمر التلميذ إلى حث ابنه للتكيف والتأقلم مع الوضع الجديد الذي أحدثتههده التعليمية, راح يحث ابنه على ترصد هفوات مدرسه مم خلق لدى التلميذ سلوك عدوانيةاتجاه معلمه, ومن جانب آخر فيرون بان هدا التصرف الغريب عن محيط مدارسنا اثر سلباعلى المدرس إلى درجة انه بات فاشلا أمام ظاهرة لم يعد ينفع معها سوى إعادة النظر فينظام العقوبات، و اكتفى و هو مقوض من روح المبادرة و الحيوية بإلقاء الدروس دون أنيولي أي اهتمام للجانب التربوي تجنبا لما من شأنه أن يجلب له متاعب مع الأولياء، وحول هذا الموضوع نستدل ببعض الحوادث التي تعترضهم و لا شك أن آثارها على عمال حقلالتعليم بليغ جدا، حيث يروي الأستاذ (ب-طاهر) قائلا بأنه كان واقفا في فناء المدرسةلما ضبط تلميذا يسب الله، و بعد استدعاء ولي أمره و حضر إلى الإدارة أجاب المعلمبـ:\\\'و بما أنك لست أستاذه فماذا أدى بك إلى مخاطبته على الإطلاق\\\'، و تضاف إلىهذه الواقعة حادثة أخرى لا تقل ضررا من سابقتها، وهي الحادثة التي أثارت ضجةإعلامية في بداية السنة المنصرمة، و ذهب فيها مساعد تربوي ضحية اعتداء ولي تلميذ،بعد أن تصور هذا الأخير أن المساعد التربوي تعدى على ابنه و هو المتسبب في نظره فيدخوله إلى المستشفى و في الحقيقة أن ابنه مصاب بمرض لا غير، و من أجل مثل هذهالتصرفات و غيرها التي غالبا ما تصدر من الأولياء عمد المعلم إلى تقليص من دره إلىدرجة أنه أضحى يختصر مهامه في إلقاء الدرس، و يتحاشى حتى حشر نفسه في شجاراتالتلاميذ و يتغاضى النظر إن صادف و التقى اثنين يتخاصمان.
و نتيجة لهذا الكم منالمشاكل التي تتخبط فيها المدرسة الجزائرية و كذا لبعد قوانينها عن مواكبةالتطورات، حل قانون الشارع و أعرافه محل القوانين المسيرة للمؤسسات التعليمية، وبات الشارع بسلبياته هو الذي يؤثر على المحيط المدرسي و ساعدت في ذلك أيضا جملة منالعوامل، كانتشار ذهنية العزوف عن مقاعد الدراسة التي تأتت عن الإحباط و اليأس الذيجاء نتيجة تفشي ظاهرة البطالة في صفوف ذوي الشهادات العليا، و الارتقاء إلى مصفالأثرياء عن طريق النصب و الاحتيال و تفشي اللا عقاب، فهي كلها عوامل لم تخف علىأحد أنها شكلت في ذهن الطفل فيروسا مدمرا لما تلقاه في المدرسة من دروس في مجالالأخلاق و الصفات الحميدة حتى أضحى يرى أن كل ما تعلمه عبارة عن سخافات و حماقات لاوجود لها في واقع تديره المضاربة بالمبادئ الإنسانية و الواقعية الميكيافلية.
ومن الأسباب التي ساعدت أيضا على بروز ظاهرة العنف، تطرق المعنيون أيضا إلى البرامجالتعليمية التي لم يتوانوا في وصفها بالمياه الراكدة لعدم مواكبتها التغيراتالطارئة في العالم، حيث يرون بأن بعض مواضيع مادتي التربية الإسلامية و القراءةتترك انطباعا سلبيا لدى الطفل مثل موضوع \\\"الحمامة و الصياد\\\"، في مادةالقراءة، و آية\\\"الجنة تحت ضلال السيوف\\\" في مادة التربية الإسلامية وهي الآيةالتي لا يرون ضرورة لإدراجها في برنامج التعليم، حيث لا يستبعدون أن يكون لهذاالدرس و أمثاله الكثيرين صلة في بروز ظاهرة الجريمة المنتظمة في المجتمع الجزائري،و نفس الشيء لموضوع الجهاد الذي يرون بأنه لم يعد مجديا في عالم تتطلع فيه الشعوبإلى السلم و الأمان، و يفضلون الأساليب السلمية و الحضرية لفض النزاعات.